كلمة رئيس الجمهورية الى الشعب العراقي حول التطورات الاخيرة في البلد
إخوتي وأبنائي..
أيّها العراقيون
الغيارى في رُبوع الوطن..
السلامُ عليكم
ورحمة الله وبركاته..
أخاطبكم في هذا
الظرف الدقيق، وأتوجهُ إليكم جميعاً بحديثٍ من القلب..
مؤلمٌ في الصميم ما طالعناهُ من دمٍ عراقي مهدور
من الشهداء والجرحى من المتظاهرين والقوات الأمنية.. فدمُ أبنائنا غالٍ، ومشاهدُ الأمس
هزّت نفوس كل العراقيين وجرحت مشاعرهم واعتصرت قلوبهم حزناً... وعلينا الإقرار بأن
المنظومة السياسية والمؤسسات الدستورية عجزت عن تفادي ما حصل، وهو دليل على أن الخطر
والأزمة حين تشتد لا يمكنُ تفاديها بالخطابات والتمنيات الطيبة، بل بالإرادة
والقرار والعمل الوطني الحريص.
إن موقف سماحة
السيد مقتدى الصدر لوقفِ أحداث العنف، هو موقفٌ مسؤول وشجاع وحريص على الوطن وهو
محل تقدير عالٍ من العراقيين، وينبغي استثماره لصالح الخروج ببلدنا من الأزمة
السياسية الراهنة عبر حلول مسؤولة ضامنة لتحقيق تطلعات الناس.
كما نتقدم بجزيل
الشكر والعرفان الى المخلصين من أبناء قواتنا المسلحة من الجيش والشرطة والحشد
الشعبي على تحلّيهم بالصبر والحكمة في التعامل مع الأحداث.
أبناءُ الرافدين
اختبروا الفواجع على مدى عقودٍ من الزمن، ولن يسمحوا بالعنف حلاً لمشاكلهم، بل
المسار السلمي الديمقراطي الدستوري وتحت سقف الوطن... شعبُنا وقواه الأمنية، الذي واجه إرهاب
داعش نيابة عن العالم أجمع وبشجاعة عظيمة، لن يقعوا في فخ الفرقة الداخلية بين الإخوة.
إخوتي وأخواتي..
إن انتهاء أحداث
العنف والصدامات وإطلاق الرصاص أمر ضروري ومهمّ لحقن دماء العراقيين، لكنه لا يعني
انتهاء الأزمة السياسية المُستحكمة في البلد منذ أشهر... وما شهدناه ليس ازمة آنية
فحسب، بل ازمةٍ مُستحكمةٍ مرتبطةٍ بمنظومة الحكم وعجزها، وكان صوت شعبنا المطالب
بإصلاحها واضحاً ومسموعاً في احتجاجاتٍ متواترةٍ منذ عقد من الزمن، قوبلت بعدم
الاكتراث وغياب الإرادة بل والتقليل من شأنها، وسيتواصل احتجاج الناس ويتصاعد اكبر
اذا استمر الوضع الراهن دون إصلاح.
لقد دعوتُ سابقاً
وكررتُها جهاراً نهاراً من منطلق مسؤولياتي الدستورية والوطنية، واقولها اليوم
وبلا تردد.. نحنُ بحاجةٍ الى إصلاحات جدية تُعالج مكامن الخلل البنيوي في منظومة
الحكم التي تعرّضت للتشكيك من المواطنين.. فلا يُمكن المراهنةُ أكثر على صبرِ
شعبنا بالتطمينات ولا بالكلام ولا بالوعود... فالشعبُ مصدر السُلطةِ، ولا شرعية
لأي عملية سياسية لا تعمل على تحقيق متطلبات الناس.
أقولها وبصراحة أن
الانتخابات الأخيرة لم تُحقق ما يأملهُ المواطن.. انتخابات جاءت استجابة لحراك
شعبي شبابي ناهض وغجماع وطني يُطالب بالإصلاح الحقيقي، ولكنها واجهت الكثير من
الإشكالات والتحديات.. التأخير في تلبية التوقيتات الدستورية وتشكيل حكومة جديدة،
وقضية استقالة الكتلة الصدرية الفائزة في الانتخابات، وما لها من آثار سياسية
واجتماعية جسيمة.
وكذلك من
الإشكالات الخطيرة هي نسبة العزوف الكبيرة للعراقيين عن المشاركة في الانتخابات
أصلا.
إن الأغلبية
الصامتة التي قاطعت الانتخابات والتي شكّلت أكثرَ من نصف الناخبين العراقيين هو
جرس انذار وعقابٌ للأداء السياسي... يجب التوقف عند ذلك والتفكر كثيراً..
فالانتخابات في نهاية المطاف ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة ومسار سلمي يَضمنُ
مشاركة واسعة للعراقيين في تجديدِ خياراتهم وتحقيق تطلعاتهم في الاصلاح.
لقد آن الأوان
لمصارحةٍ صادقة بين قوى الشعب.. فعاليات سياسية واجتماعية لتأسيس قاعدة رصينة
وجديدة لإعادة بناء الدولة عبر نقاش حي يُشارك في صياغته الرأي العام الوطني.
المُصارحة
المطلوبة يجب أن يكون أساسها خطوات عملية... فشعبنا يطالب بالعدالة الاجتماعية
والحياة الحرة الكريمة وفرص العمل والخدمات الأساسية وهي ليست مطالب مستحيلة، إذا
ما تكاتفنا جميعا وتجاوزنا ترسبات المراحل السابقة ومضينا الى الأمام مُتحدين لما
يُعز شعبنا.
يقيناً إنّ الوضع
الحالي لم يعد مقبولاً وغير قابل للاستمرار..
ولذلك فان إجراء
انتخابات جديدة مُبكرة وفق تفاهمٍ وطني، يُمثل مخرجاً للازمة الخانقة في البلاد
عوضًا من السجال السياسي او التصادم والتناحر... وأن تضمن الاستقرار السياسي
والاجتماعي وتستجيب لتطلعات العراقيين.
إن من الأسسِ
الضرورية الآن هو التأكيد على الحوار الوطني.. حوارٌ صريح بجدول عمل واضح ومعلوم،
يُطمئن المواطن ويضع خارطة طريق للمرحلة القادمة، وأن أمام الجميع مسؤولية تاريخية
ووطنية وأخلاقية في الترفع عن الخلافات لصالح ما هو أغلى وأثمن، لصالح الوطن
والتنازل من أجله ومن أجل شعبهِ الصابر، وتجاوز هذه المحنة قبل فوات الأوان.
إخوتي وأخواتي في
الوطن..
علينا أن نكون
صادقين أمام أنفسنا وأمام شعبنا بتقديم المصلحة العليا للوطن... فلا مناص بعد
اليوم من الشروع بإصلاحات حقيقية، وقطعاً لا منصب أو موقع أهم من مصلحة الوطن،
والأهم هو إصلاح الوضع جذرياً لوقف دوامة الأزمات.
إن معركتنا
جميعاً هي معركة بناء الدولة، وهذا البناء لن يتحقق من دون احترام مرجعية الدولة
والقانون والمؤسسات وترسيخ السيادة وعدم التجاوز على سلطة الدولة واستقلالها
وسلامتها.
المحاصصة التي
ترفض مغادرة واقعنا تُمثل إشكالاً خطيراً وعقبةٍ أمام الوصول الى الحكم الرشيد،
فهي أبرز أسباب النزيف في بلدنا، بل إنها سببٌ في تعميق غياب الهوية الوطنية
الجامعة لصالح هويات فرعية زجّت البلد ومواطنيه بتوترات طائفية ومذهبية وعرقية.
وعليه، فإن
استمرار الوضع الراهن سيُمكّن الفساد أكثر.. هذا السرطان الذي يهدد كيان الدولة،
ويعرقل فرص تقدم بلدنا ويُكبّل إمكانيات وطننا الكفيلة بنقل شعبنا الى مصاف أخرى..
وما قضايا الفساد والتآمر على مُقدرات الدولة التي ظهرت الى الرأي العام مؤخراً
سوى مؤشر الى الكارثة الحقيقية، وقطعاً تستوجب متابعة قانونية جدية.
إن ضرب منابع
الفساد واسترداد ما تم نهبه وتهريبه هي معركة وطنية لن يصلح وضع البلد دون
الانتصار فيها، وهذا يكون عبر تشريعات وقرارات إصلاحية قاسية تُبنى على الإرادة
الموحدة.
الأشهر الماضية
التي أعقبت الانتخابات، تؤكد ما ذهبت اليه رئاسة الجمهورية منذ أكثر من عامين، في
الحاجة لتعديلات دستورية يجب الشروع فيها في الفترة المقبلة وعبر الآليات
الدستورية والقانونية، لبنود شهدنا جميعاً على مسؤوليتها لمشاكل مُستحكمة.. بنود
كرّست أزمات بدل حلها، وباعدت المسافات بدل تقريبها.
إن الأزمة بين
الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان هي الأخرى باتت غير مقبولة، وكبّدت البلد
الكثير، وأوصلتنا لهذه اللحظة المفصلية حيث نواجه تبعاتها اليوم بسبب المماطلة
والترحيل للمشاكل... وعليه يجب إطلاق حوار جاد بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم
كوردستان يضعُ حلولاً جذريةً دائمةً لا ترقيعية، ويأخذ في الاعتبار مصالح جميع المواطنين
ولا يزج قوتهم وأرزاقهم في الخلافات السياسية.
المواطنون في
البصرة والنجف والأنبار وبغداد والموصل لا يرتضون لإخوانهم في كردستان ان يتعرضوا
للظلم والغبن في قوت عيشهم.
واجبنا أن نكون
بمستوى المسؤولية الوطنية، وأن نعزز المكانة الحضارية التي يستحقها بلدنا وأن يقوم
بدوره الإقليمي والدولي المحوري.. فلا يمكن القبول أن يكون البلد ساحة صراع
الآخرين او منطلقاً للعدوان على أحد، بل ساحة للتلاقي والتواصل لدول المنطقة
وتبادل المصالح المشتركة.
إخوتي وأخواتي..
في هذه المناسبة،
نُجدد التأكيد على ضرورة الحوار عبر اجتماع وطني شامل للجميع، وأؤكد على دعمنا
لدعوة الأخ دولة رئيس الوزراء للحوار الوطني بين الفرقاء السياسيين، وأدعو الإخوة
في الإطار التنسيقي الى التواصل مع أخيهم سماحة السيد الصدر لتهدئة النفوس،
والخروج في هذا الحوار الوطني بحل سياسي حاسم يتناول قضية الانتخابات الجديدة
المُبكرة وتشكيلة الحكومة وإدارة الفترة المقبلة وبما يؤمن الاستقرار والتفاهم
الوطني وكذلك الاستحقاقات الوطنية في الإصلاح لتأمين العيش الكريم الحر للعراقيين.
هذا البلد اختبر
الفواجع والمحن خلال العقود الماضية وآن الأوان لطيّها... وإذ نستذكر الشهداء،
ضحايا المقابر الجماعية والأنفال والقصف الكيمياوي في حلبجة والانتفاضة الشعبانية
وضحايا الإرهاب والحرية والديموقراطية والإصلاح، فان الوفاء الحقيقي لهذه الدماء
الزكية يكون عبر الاستجابة لتطلعات المواطنين ومعالجة الأخطاء المتراكمة وضمان عدم
تكرار المآسي.
كما أدعو وسائل
الإعلام الى تحمل مسؤوليتها المهنية والموضوعية في الحرص على السلم والأمن
المجتمعيين، وتجنب خطاب الكراهية والتحريض والتأجيج.
تحية الى أبطال
القوات المسلحة من الجيش والشرطة والحشد الشعبي والبيشمركَة المُرابطين في المدن
والصحارى والقصبات ليخاطروا بحياتهم من أجل أمن واستقرار شعبنا وبلدنا.
العراق ينتظر منا
الكثير، والعراقيون يستحقون الأفضل ولن يقبلوا بغير إصلاح الوضع وتجاوز
الإخفاقات.. التاريخُ يُعلّمنا أن صوتَ الشعبِ أقوى، وإرادتهِ هي الأمضى.
حمى الله العراق
والعراقيين من كل سوء ومكروه.
والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته..
Presedent